جليلة القاضى
جليلة القاضى


جليلة القاضي: هوية القاهرة تتبدل يوميًا | حوار

أخبار الأدب

الإثنين، 16 أكتوبر 2023 - 12:59 م

انتقال د. جليلة القاضى المستمر داخل أحياء القاهرة ساعدها على فهم المدينة والارتباط بها خلال فترة مبكرة من حياتها. كما ساهمت نشأتها داخل بيت كان شاغله الأكبر متابعة مجريات الأحداث السياسية فى تشكيل وعيها بشكل كبير. إذ عاصرت التحولات الكبرى التى شهدتها مصر منذ خمسينيات القرن الماضى وما تلاها من أحداث عاشتها المنطقة العربية ككل. فوالدها هو اليوزباشى جمال القاضي، الذى عمل ضابطًا فى الجيش المصرى قبل أن ينضم لتنظيم الضباط الأحرار، ويتعلق بجمال عبد الناصر ويؤمن به ويرافقه طوال حياته.

لذا ليس غريبا أن تعتبر نفسها ابنة لثورة يوليو.. الثورة التى عاشتها وآمنت بها بكل جوارحها، فقد رفضت كافة أشكال الظلم طيلة حياتها بسبب إيمانها الشديد بمبادئ الثورة وإحساسها بالتمييز الذى تعرض له المصريون على امتداد تاريخهم.

عقب وصول الرئيس السادات إلى السلطة، انخرطت فى الأنشطة الطلابية، كانت الجامعة بالنسبة لها «فضاء الحرية والتمرد» وطالبت مع زملائها بالحرب على إسرائيل، لكن وبسبب نشاطها السياسى المتزايد تم اعتقالها. أحست بعدها أن الوضع لم يعد مناسبًا، شاهدت التحولات الاجتماعية التى حلت على المجتمع المصرى وصعود التيارات الدينية، لذلك قررت الرحيل والانتقال للعمل فى الجزائر، وهناك تفتح وعيها على قيمة التراث، والمحافظة عليه.

ترى أن المخطط العمرانى لا بد أن يكون على دراية تامة بالسياسة والاقتصاد وأن يشتبك بشكل كامل مع واقعه، فهى تدرك تمامًا أن العمران ليس ماديًا فقط بل نمط حياة وأسلوب حكم، لذلك فقد مارست التخطيط من منطلق كونه «قضية»، واعتبرت الأمر جزءا من نضالها.

هنا نحاور جليلة القاضى أستاذ التخطيط العمرانى فى جامعات باريس فى لحظة مهمة من تاريخ المدينة المتواصل والممتد، أردنا فى هذا الحوار الاقتراب من حياتها وتجربتها ليس فقط كمخططة عمرانية، لكن لكونها بالأساس أحد المدافعين البارزين عن تاريخ مصر وتراثها الفريد.

ولدت فى منطقة المنيل قبل قيام ثورة يوليو بعامين.. كيف كانت ظروف النشأة؟

تزوج أبى وأمى رغم معارضة أهلهما، كان هناك تفاوت طبقى بين العائلتين، إذ كانت عائلة أمى أقل اجتماعيًا بدرجة، وقد عارضت جدتى واسمها جليلة أيضًا الزيجة، لذلك اتخذا قرارًا بالزواج ضد رغبة الأهل، فلم يكن هناك حفل زفاف. والدى هو اليوزباشى جمال القاضى، وكان ضابطًا فى الجيش المصرى وشارك فى حرب 48، وأصيب برصاصة فى ربلته. أتذكر أنه كان يجد صعوبة فى ثنى ساقه عند الصلاة، وكنا نحب أنا وإخوتى رؤيته بهذه الوضعية. كان الأمر بالنسبة لنا باعثًا للفخر والاعتزاز، لأنه أصيب دفاعًا عن أرض فلسطين. وقد التحق بعدها بتنظيم الضباط الأحرار، وحين قامت ثورة 1952 أُوكلت له مهمة السيطرة على مقر بث الإذاعة، وهو بالمناسبة أول من أذاع بيان الثورة، ثم أذاعه السادات بعده. لم يترك والدى عبد الناصر أبدًا، كان برفقته دائمًا، تعلق وآمن به طوال حياته. وبعد الثورة عمل ضابطًا فى البوليس الحربى، وعلى الرغم من أصوله الأرستقراطية إلا أنه تجرد من العهد البائد بشكل كامل. لذلك فقد تشربنا أنا وإخوتى السياسة منذ يومنا الأول، إذ تداخلت معنا فى كل شىء تقريبًا، حتى فى احتفالاتنا الخاصة كانت حاضرة، أتذكر مثلًا أن أختى الكبرى نادية كان يقام لها ثلاثة أعياد ميلاد فى العام، الأول للأسرة، والثانى لأصدقائها، والثالث لأعضاء مجلس قيادة الثورة، لذلك ساهمت نشأتى داخل هذا المنزل فى تكوين شخصيتى.

ربما هذا ما يفسر رغبتك الدائمة فى التحرر من أية قيود، بجانب انحيازك المستمر للهامش..

نعم.. ما تقوله صحيح تمامًا والسبب فى ذلك هى ظروف نشأتى، فقد انفصل والدى عن أمى وأنا فى عمر الخامسة، وقررت أمى وجدى لأبى تربيتنا معًا. شعرت وقتها بالظلم والألم الذى عاشته أمى، وتأثرت كثيرًا بما حدث. كنا ثلاثة إخوة، ورفض والدى أن يتولى جدى وأمى أمر تربيتنا؛ لذلك انتقلنا رفقة أمى للعيش داخل «بانسيونات وشقق» منطقة وسط البلد. ما حدث جعلنى أرفض أى وضع قد يسلب من الإنسان الحق فى العيش بكرامة.

الأمر الثانى هو أننى ابنة لثورة يوليو، فقد عايشتها بكل جوارحى وأدركت أن احتجاج الناس كان سببه الرئيسى الرغبة فى الثورة على وضع ظالم عاشته مصر إبان حكم الملكية. وتحول الإحساس بالظلم لإحساس شخصى بداخلى، بسبب الظلم الكبير الذى وقع على أمى وعلينا أيضًا، وقد تنامى هذا الإحساس داخلى، ودفعنى لأن أكون إنسانة ثائرة ومتمردة بشكل دائم؛ متمردة على عدم المساواة، وعلى كافة أشكال الظلم الاجتماعى، وتبنيت الأفكار الاشتراكية فى نهاية الأمر. وأعتقد كذلك أن ترتيبى بين إخوتى ساهم فى الأمر لحد كبير فأنا الابنة الوسطى، وقد نالت أختى كل الاهتمام، وكذلك أخى الأصغر، بينما تركتنى عائلتى حرة، وأنا من جانبى أردت التحرر من أية قيود.

تنقلت داخل العديد من أحياء القاهرة خلال تلك الفترة وساهم ذلك فى نمو إحساسك بضرورة تغيير المجتمع.. ماذا أضافت لك التجربة؟

انتقالى المستمر كان سببه عدم استقرار الوضع الأسرى كما ذكرت. تزوجت أمى بعد الانفصال عن والدى بفترة قصيرة، واستحوذ أبى على حضانتنا وعشنا معه فى الزمالك لمدة ثلاث سنوات. خاضت خلالها أمى رحلة طويلة، واستعادتنا فى النهاية بحكم قضائى. وانتقلنا من حى الزمالك لحى الظاهر، ومثلّ ذلك انحدارًا اجتماعيًا ومكانيًا. صحيح أن الوضع المعيشى تغير، لكننا كنا سعداء بالعودة إلى أمى. كما أن انتقالنا للعيش داخل منطقة الظاهر جعلنا نشعر بالظلم وبالتفاوت الطبقى الذى يعيشه الناس، وشعرنا أننا فى حاجة لتغيير المجتمع بشكل كامل. فاقترابى من الأسر المتوسطة جعلنى أتعرف على التقاليد الاجتماعية. عرفت معنى الجيرة، ومعنى التقاليد، والمشاركة والتعاون الحقيقى بين المسلمين والمسيحيين، كانت خالتى مثلًا تصنع الكعك مع جيراننا المسيحيين. لكن لم يستمر الوضع كثيرًا فعندما وصلت أختى نادية للسن القانونية قرر والدى استعادتها مرة أخرى، وأمى بدورها فضلت ألا ننفصل عن بعضنا البعض فأعادتنا مرة أخرى إلى بيت والدى.

خلال هذه الفترة عاصرتِ أحداثا كثيرة منها الوحدة مع سوريا وحرب 1967 وغيرها من أمور.. كيف نما وعيك السياسى وقتها؟

لا أزال أتذكر النقاشات التى جرت حول «الميثاق» داخل البرلمان، فقد كان والدى يفرض علينا متابعتها فى التليفزيون، وقد شاهدنا النقاشات الحادة التى قادها خالد محمد خالد، لم نكن نتخيل أبدًا أن يهاجم أحد عبد الناصر. أحببناه لدرجة أننا «كدنا نعبده» فقد آمنا بأفكاره وما حققه فى ملف العدالة الاجتماعية، والتصنيع، والتعليم؛ وبالتالى لم أكن أتصور أن أحدًا بإمكانه انتقاد «الزعيم».

وتزامنًا مع متابعتى للأحداث السياسية بدأت أطلع على كتابات يوسف السباعى، وإحسان عبد القدوس، وقرأت أيضًا مذكرات نوال السعداوى، وقد أضافت إليّ إحساسًا جديدًا وهو أن المرأة مقهورة وينبغى أن تحصل على حقوقها كاملة، كما قرأت مذكرات سيمون دى بوفوار، لم يكن عمرى وقتها قد تجاوز ال12 عامًا، وكنت أطلع يوميًا على الصحف والمجلات المصرية. لكن بعد ذلك ابتعدت عن قراءة أدب محطات القطار (مصطلح فرنسى يعنى الأدب المُسلي) وبدأت قراءة نجيب محفوظ، وطه حسين، وجان جاك روسو، وفولتير وكل الأدباء الذين شكلوا ضمير الثورة الفرنسية أصبحوا أبطالى، وساهموا فى تشكيل وعيى.

 

كما أن التحاقى بمدرسة «ليسيه الحرية» بباب اللوق ساهم فى تشكيل الوعى القومى العربى عندي. أتذكر أنه فى الفصل السادس الابتدائى كانت مديرة المدرسة هى مدام ديلا روشفوكوا، سليلة أسرة أرستقراطية فى فرنسا. وقتها لم تكن الجزائر قد تحررت بعد. كنا نقف يوميًا فى الطابور الصباحى ونردد: «تحيا الجمهورية العربية المتحدة، وتحيا الجزائر حرة مستقلة»، وأصبحت جميلة بوحيرد بالنسبة إلىّ بطلة، كنت أحلم بها دائمًا واعتبرها رمزًا للجزائر. وعندما جرى تأسيس وحدة الاتحاد الاشتراكى داخل المدرسة، شجعنا والدى على الانضمام، وهنا صرت يسارية بالمعنى الحرفى للكلمة، إذ تبنيت أفكار التحرر الوطنى، والعدالة الاجتماعية، ورفع الظلم، وإعادة توزيع الثروة، والتأميم. لكننا فوجئنا بنكسة يوليو 1967، كان الأمر كارثيًا بالنسبة إلينا. كنا نؤمن بعبد الناصر، وقد أراد الشعب من الرئيس التراجع عن قراره بالتنحى، فلم يكن الخروج لأجل شخص عبد الناصر نفسه، لأن الناس بدأوا فعلًا فى انتقاده بسبب سياساته ومسئوليته عن الهزيمة، لكننا نزلنا للتعبير عن موقفنا، وأننا لن نستسلم أبدًا أمام إسرائيل، وسنثأر لكرامتنا.

لماذا اخترت الالتحاق بكلية الهندسة؟

 حلمى كان الالتحاق بكلية الطب. فدائمًا ما كانوا ينادوننى بلقب «الدكتورة»، وكان والدى يريد أن تصبح أختى طبيبة لكن ولأن ميولها كانت أدبية فقد التحقت بكلية الآداب قسم اللغة الفرنسية، وركز والدى آماله عليّ لأنه قضى عامًا فى كلية الطب قبل التحاقه بالكلية الحربية، وبالفعل مجموعى كان يؤهلنى، إلا أن صراعًا نشأ بينى وبينه، ورفضت تحقيق رغبته! كما أردت أن تستمر المنافسة بينى وبين الأولاد لا البنات، كنت أرى أن البنات لا يصلن أصلًا لمستواى فى المنافسة، فقد مارست جميع الألعاب الرياضية منذ طفولتى مع الأولاد، لذلك شعرت أن كلية الطب لن تكون اختيارًا مناسبًا، وبعد التحاقى بفترة قصيرة بالهندسة أردت التراجع عن الأمر والتحويل لكلية الطب إلا أن والدى رفض!

فى مقال سابق ذكرتِ أن الجامعة كانت فضاءً للتمرد.. كيف كانت التجربة ولماذا اخترتِ قسم العمارة تحديدًا؟

عندما التحقت بكلية الهندسة كانت القاهرة مدينة تغلى. تم إغلاق الجامعة لمدة 60 يومًا بسبب الحركة الطلابية التى احتجت على قوانين معاقبة المتسببين فى النكسة، وقررت وقتها الترشح لانتخابات اتحاد الطلبة، كانت الجامعة بالنسبة إليّ هى فضاء الحرية والتمرد، تمردت على كل شىء تقريبًا، ورغم إيماننا بمشروع عبد الناصر إلا أننا انتقدناه أيضًا، إذ أردنا استعادة كرامتنا وتخطى فكرة الهزيمة. وكانت هناك جماعات طلابية ذات نشاط سياسى، وتوجه يسارى مثل: جمعية أنصار الثورة الفلسطينية، وجمعية أحباء الموسيقى، وجمعية الشعر وغيرهم. وكنا ننفذ مجلات الحائط وأعطيت مجلتى اسم «الحرملك». أردت من خلالها دعوة الفتيات للانضمام إلينا، والاهتمام بالشأن العام والسياسة، وركزت كذلك على نضال المرأة وكفاحها عبرّ فترات التاريخ. لكن على الجانب الآخر بدأت جماعة الإخوان فى الظهور، إلا أننا كنا أكثر منهم عددًا وتأثيرًا، فقد بدأوا عملية الترويج لمجلاتهم، وحدثت مشادات بيننا وبينهم، بسبب تمزيق مجلاتنا من جانبهم، لكن لم نكن نرد عليهم بنفس الفعل.

أثناء هذه الفترة شاركت فى كافة الأنشطة الطلابية والرياضية، إلى أن أطلقت علىّ الدكتورة نسمات عبد القادر اسم «الطالبة غير المتفرغة». كنت أنجح دائمًا بتقدير مقبول، لكن ما شدنى لقسم العمارة هو الجو العام داخله فقد سمح لنا بقدر من التحرر، وكنا ننفذ مشاريعنا المعمارية داخل قاعة واسعة يُسمح فيها بالاستماع للموسيقي. كما سمح لى التحاقى بالقسم بالعودة للمنزل فى ساعات متأخرة، لذلك تحررت من ضغط الأسرة.

تعرضتِ للاعتقال خلال فترة السادات بسبب نشاطك السياسى داخل الجامعة.. تعتقدين أنكم تحاملتم عليه؟

تحاملنا عليه بالطبع، فقد عايشنا أحداث أيلول الأسود فى الأردن، وخلال حرب الاستنزاف ظهرت المقاومة الفلسطينية، ومنظمة التحرير الفلسطينية، كان الأمر بالنسبة لنا انتصارًا عظيمًا، فنحن عشنا مع كل شيء بجوارحنا، بدءً بانفصال سوريا عن مصر، وصولًا لهزيمة 67 . وعندما مات عبد الناصر عشنا حدادًا أنا وأختى ولبسنا الأسود لمدة أربعين يومًا. كنا نعلم أن الرئيس القادم هو السادات بحكم الدستور كونه نائبًا للرئيس، وكنا معادين له، وعندما جاء للحكم شعرت أن مشروع عبد الناصر قد انتهى.

مارسنا النشاط الطلابى بكثافة للضغط على السلطة لتشن الحرب على إسرائيل، وقد أحدثنا حراكًا، وعندما قامت الحرب بين الهند وباكستان، تحدث السادات عما أسماه بال«ضباب»، وأعلن أن خيار الحرب ليس مؤكدًا أثناء تلك الفترة، فضغطنا بشكل أكبر وأعلنا الإضراب العام، وقمنا باحتلال قاعة المؤتمرات بجامعة القاهرة، وفى قسم العمارة استقطبتُ الطلبة ليشاركونا. بدأنا توزيع المنشورات، وسيطرنا على مطبعة الجامعة. وبدأت فى المقابل جماعة الإخوان تظهر بشكل علنى، إذ إن السادات «قواهم علينا» بهدف مضايقتنا، وانتقدوا أحمد عبدالله رزة، زعيم الحركة الطلابية، لأنه لم يبدأ كلمته بالبسملة.

 تسارعت الأحداث إلى أن تم اعتقالى داخل الجامعة برفقة أخى وبقية الطلبة المضربين، واقتادونا لمقر الأمن المركزى، وكانت معى أروى صالح وكل قيادات الحركة الطلابية من جامعة القاهرة وعين شمس. فى ذلك التوقيت نزل الشعب للميادين ليطالب بالحرب، وقد قاد المثقفون الحركة الشعبية، وكان منهم هيكل، وكتب أمل دنقل حينها قصيدته الشهيرة «الكعكة الحجرية». تحولت مدينة القاهرة لبركان من الغضب، ووصفنا السادات فى خطاب له بأننا «جماعة الخيانة العظمى». قررنا الإضراب عن الطعام، وبسبب ضغط الشارع أفرجوا عنا فى النهاية.

الهندسة كما ذكرتِ لم تكن ضمن أولوياتك.. كيف حدث هذا التحول وهل تعتقدين أن المخطط العمرانى لابد أن يكون مشتبكًا مع واقعه السياسى؟

بداية التحول كانت فى السنة الثانية لى بالكلية، أى عندما بدأنا دراسة مادة التخطيط العمرانى. وحين عُينت فى هيئة التخطيط العمرانى بعد تخرجى مباشرة، فقد تبدلت حياتى إذ أحببت التخطيط، لكن لم يكن وعيى قد تفتح بعد على القاهرة التاريخية. وتأثرت فى فترة الجامعة بأستاذ التخطيط العمرانى الدكتور طاهر الصادق، والذى تعرفنا من خلاله على مفهوم العمران، وأطلعنا على كتابات ابن خلدون. أدركنا أن العمران ليس ماديًا فقط لكنه أسلوب حكم، وأن فساد العمران هو من فساد الحكم. لذلك فتح التخطيط العمرانى ليّ آفاقًا جديدة، شعرت أننى وجدت ما كنت أبحث عنه، وقد أشبع التخطيط رغبتى الأساسية فى ممارسة السياسة، فالمخطط العمرانى لابد أن يكون على دراية تامة بالسياسة والاقتصاد وأن يشتبك معهم، ومن الضرورى أن يكون له توجه سياسى كامل، نظرًا لنوعية المشروعات التى يقدمها لمجتمعه. فهو إما ينفذ مخططًا لخدمة مصالح رؤوس الأموال العقارية والمستثمرين، وإما ينفذ مخططًا لتحقيق عدالة مكانية للصالح العام.

قمتِ بإعداد مخطط لإعادة تسكين المهاجرين من منطقة القناة.. كيف تعاملتم مع تراث هذه المدن؟

الدولة وقتها عهدت إلينا تخطيط مدن الإسماعيلية، والسويس، وبورسعيد، لكن للأسف لم ندرك فى ذلك الوقت فكرة الحفاظ على التراث، ولم يطلعنا أحد على تجارب الدول الأوروبية وما فعلته بعد الحرب العالمية الثانية. كنا بعيدين جدًا عن مثل هذه التجارب؛ لذلك تبنينا مبدأ الإزالة وإعادة البناء.

كيف بدت مصر أثناء تلك الفترة ما التحولات التى جرت داخلها.. وما الذى دفعك للسفر للخارج؟

بسبب رغبة السادات فى التخلص من كل المعارضة اليسارية، تصاعد المد الدينى بشكل كبير، وبدأ المجتمع يتبدل، وظهر الأمر جليًا عندما بدأنا إعداد مخطط مدن القناة، كنا وقتها نقسم أنفسنا لمجموعات صغيرة للعمل على المخططات، وقد لاحظت أن زملائى المسيحيين بدأوا يأخذون جانبًا وكونوا فريقًا خاصًا، وفعل المسلمون الأمر نفسه. لكن ما حدث أن المخططات الهندسية كانت تتبلور فى شكل ماكيتات للمدن وتضم منشآت دينية لكنائس ومساجد، فكنا نتفاجأ باختفاء العلامات المميزة لتلك المنشآت من مآذن وأبراج للكنائس. وكان ذلك مؤشرا خطيرا على بداية مرحلة الفتنة الطائفية. شعرت أن الجو العام غير صحى. وفى نهاية الأمر تم تهميشنا بشكل كامل، إذ عهدوا لمخططين أجانب لتنفيذ المشروع، وإعادة تعمير القطر المصرى بأكمله. وبسبب الحالة المضطربة التى عاشها المجتمع فكرت فى السفر للخارج، وتحديدًا فرنسا. لم أكن أعرف وقتها من أين أبدأ، ولم أستطع التقدم للمنح الدراسية لأننى تخرجت من الكلية بتقدير عام مقبول. قابلت وقتها أصدقاء للأسرة وهم أبناء السياسى والمهندس مصطفى موسى، وطلبوا منى الالتحاق بمكتب والدهم فى الجزائر، فقد انتقل إلى هناك بعد أن جرى تأميم شركته خلال عهد عبد الناصر. كان مقربًا من ثوار الجزائريين لخدماته العظيمة التى قدمها لجبهة التحرير، وعهدوا له بإدارة مكتب الدراسات الفنية فى شركة «سنونتراك»، وبالفعل انتقلت للجزائر سنة 1974 من أجل كسب المال الذى من خلاله سأكون قادرة على السفر للتعلم فى فرنسا.

ما الذى أضافته لك التجربة خصوصًا أن الجزائر أثناء تلك الفترة شهدت تحولات كبيرة على مستوى العمران والسياسة؟

كنت أظن أن شوارع الجزائر ستكون مزينة بصورة جميلة بوحيرد، لكننى وجدت أن الجيل الجديد من شباب الجزائر لا يعرفونها، اكتشفت أن العاصمة مثل بيروت؛ أى مجتمع منفتح بشكل كامل، إذ بدت لى كمدينة أوروبية، وهى عكس القاهرة تمامًا. وجدتها مليئة بالتناقضات. شاهدت السيدات يرتدين البرقع الجزائرى التقليدى، وفى المقابل كانت الفتيات يتجولن فى الشوارع بملابس مفتوحة. لكن على مستوى العمران لم تكن الجزائر قد أعدت كوادرها الوطنية بعد، لذلك جمعت متخصصين من مختلف جنسيات العالم. وأصبحت حقلًا لجميع التجارب المعمارية الحديثة، وقد عهدوا لكبار المعماريين لتنفيذ منشآتهم العامة. أما الصف الثانى من المهندسين فكانت بالنسبة إليهم مكاناً جيداً لتجريب النظريات المعمارية الحديثة، بينما ركز البعض الآخر على استلهام خطوط العمارة المحلية لإنتاج عمارة حديثة. أما أنا فبدأت بالتجارب التى يتزاوج فيها العنصر المحلى بالوافد الجديد، من خلال خلق لغة جديدة فى العمارة.

بعد عام تركت «سونتراك» والتحقت بالعمل داخل مكتب هندسى إيرانى، ووقتها اقتربت من تجربة إيران عبر أصدقائى الإيرانيين، والذين انتقلوا للجزائر هربًا من حكم الشاه. تعلقت بالتراث، خلال هذه الفترة كان عملى يقتضى التنقل من مدينة لأخرى وفتنت بإقليم ميزاب، فهذه المنطقة لم تُمس لمئات السنين، وقد حافظ أهلها على تقاليدهم وتراثهم المعمارى، ولم تبهرهم الحداثة بأى شكل من الأشكال. بدأت أسأل نفسى: لماذا لم يعلمنا أحد قيمة التراث فى الجامعات ولماذا لم يطلعنا أحد على تجارب أوروبا فى الحفاظ على التراث؟ لذلك تشجعت لفكرة السفر إلى فرنسا، إذ أردت التعلم من تجربتهم.

كيف كانت التجربة فى فرنسا.. ركزت هناك على مصطلح الريع العقارى وانتبهت لخطر البناء على الأراضى الزراعية داخل مصر..

التحقت بكلية التخطيط العمرانى وتحديدًا جامعة فانسين (باريس 8)، فقد ضمت أبرز العقول الأكاديمية فى كافة التخصصات. كانت رسالتى للماجيستير عن مدينة القاهرة، وتعرفت وقتها على تاريخ المدينة بشكل كامل، وطرحت على نفسى الكثير من التساؤلات حول التطور العمرانى داخلها، ومصير الأماكن التاريخية. ثم انتقلت لمعهد التخطيط العمرانى التابع لجامعة باريس 12، كان العالم كله فى تلك الفترة مهتماً بالتوسع العشوائى للمدن. لذلك بدأت العمل على هذا الموضوع بالاشتراك مع أساتذة فى الكلية، وكان اهتمامى منصبًا على مصطلح «الريع العقاري» ومدى ارتباطه بتطور المساكن العشوائية.

أثناء دراستى لحالة مصر توصلت إلى أن المطور العقارى يحقق أرباحًا عبرّ تنفيذ المساكن غير الشرعية. وبسبب ترددى الدائم على مصر، لاحظت أن الإسكان العشوائى امتد للأراضى الزراعية، وتوصلت لنتيجة وهى: أن 4% فقط من المبانى العشوائية قد تم بناؤها على أراضى الدولة و96% على أراضٍ زراعية مملوكة لأفراد، وهذا عكس ما جرى داخل أغلب دول العالم، فالتطور العمرانى غير الرسمى هناك جرى على أراضٍ مملوكة للدولة، أما فى حالة القاهرة فالمخالفة القانونية كانت هى البناء على أراضٍ زراعية مملوكة لأفرادٍ، باستثناء منشية ناصر التى احتلها السكان، نظرًا لتفاقم أزمة الإسكان، وتسارع الهجرة من الريف إلى المدينة، لتتحول إلى قطب جاذب نتيجة لإنشاء أكبر منطقتين صناعيتين فى القطب المصرى؛ وهما: شبرا الخيمة وحلوان، وقد لجأ سكانها لعبد الناصر فسمح لهم بالبناء. كان ذلك أول اعتراف رسمى بالمناطق العشوائية.

 أدركت حجم الكارثة عندما اطلعت على صور الأقمار الصناعية، وشاهدت التطورات السريعة التى تحدث على الأراضى الزراعية. كنت أشعر بالرعب، لذلك اعتبرت أن دراستى هى فى حد ذاتها نضال، إذ أردت لفت الأنظار لهذه القضية التى كنت أعلم أنها ستهدد مستقبل مصر.

رغم انتقالكِ للعيش فى فرنسا إلا أن اهتمامك كان منصبًا على دراسة المدن العربية وخصوصًا مصر.. لماذا ركزتِ دراساتك على هذا الجانب تحديدًا؟

بعد أن أنهيت رسالة الدكتوراة تم اختيارى للعمل فى معهد الأبحاث من أجل التنمية، وهو متخصص فى البحث العلمى داخل دول العالم النامى فى أفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وآسيا؛ وكُلفت بالعمل على مصر، كما تم توقيع اتفاقية تبادل ثقافى تتضمن القيام بأبحاثٍ مشتركة بين المعهد الفرنسى وكلية التخطيط العمرانى فى مصر؛ لذلك تم انتدابى للتدريس بكلية التخطيط العمرانى فى جامعة القاهرة لمدة 9 سنوات. أول بحث قمنا بإعداده كان عن منطقة الجبانات، لم يكن الهدف منه تحليل الجانب التراثى للمقابر، بل تحليل ظاهرة سُكنى المقابر. كانت فرصة بالنسبة إليّ للتعرف على الإسكان غير الرسمى داخلها، وبدأت أنتبه لجماليات المدافن وتفردها، وقدمنا نتائج مفادها: أن ظاهرة السكن فى الجبانات تكمن فى التجمعات السكنية المحيطة بالمجموعات الأثرية، أما أحواش المقابر فقد كانت تضم فقط عشرات الأسر. أى أن المشكلة يمكن حلّها بسهولة وهى ليست متفاقمة كما تروج لها الحكومة. بدأنا الاهتمام بالجبانات لكونها موقع تراثٍ لا بد من إعادة إحيائه ووضعه فى الاعتبار، وقمنا بدراسة تاريخ المنطقة بين عام 1983 وحتى عام 1988، وحدثنا الخرائط ودرسنا المنطقة بشكل تفصيلى من وجهة النظر التاريخية، والعمرانية، والمعمارية.

ولأنه قد عُهد إليّ بتدريس تاريخ المدن، فقد لاحظت أننى أقوم بتدريس المدن الأوروبية فقط، وذلك بسبب نقص المادة العلمية المتوافرة عن تاريخ المدن العربية، عدا بعض العواصم الكبرى مثل: القاهرة، ودمشق، وبغداد. فقررت دراسة تاريخ المدن المصرية. كان اهتمامنا منصبًا على دراسة تاريخ عمران المدن العربية، فكونت فريقًا بحثيًا لدراسة المدن المصرية واخترنا مدن التبادل الحضارى مثل: دمياط، ورشيد، وبورسعيد. وقع الاختيار على مدينة رشيد نظرًا لقيمتها المعمارية والتاريخية، وقد استخدمنا الوقفيات والحجج لإعداد خرائط. وهنا بدأت صداقتى بالدكتور حسام إسماعيل، وفى النهاية نشرنا كتاب «رشيد.. النشأة.. الازدهار.. الانحسار» فاستخدام الحجج والوقفيات، كان منهجًا جديدًا بالنسبة لدراسة تاريخ المدن، وقد حصل الكتاب على جائزة منظمة المدن والعواصم الإسلامية. إلا أن مشروع بورسعيد وكذلك دمياط لم يكتمل بسبب نقص التمويل، فعدت مرة أخرى إلى باريس سنة 1993.

بالحديث عن الجبانات دافعتِ عن منطقة الجبانات طوال سنوات عمرك.. ما سبب تفاقم المشكلة من وجهة نظرك.. أين الخلل وهل هناك حل لإنقاذها؟

تدهور الجبانات كان مُتعمدًا، إذ تُركت لفترة طويلة بدون صيانة، ونحن طالبنا لسنوات بحل المشكلة لكن لم نتلق ردًا، فقد ظلت المياه الأرضية تعمل على إغراق الجبانات، كانت المرة الأولى عندما تم إنشاء مساكن لمتوسطى الدخل، وللطبقة العليا عند بحيرة عين الصيرة، حيث ألقت الشركة المنفذة مخلفاتها على البحيرة، وبالتالى ارتفع منسوبها، وبدأت المياه تتسرب للجبانات خاصة عند الإمام الشافعى، وكان لا بد من التدخل وقتها لمعالجة المشكلة، بالإضافة لتسرب المياه من المناطق السكنية إلى داخل الجبانات بسبب شبكات التغذية السيئة. لكن الحكومات قررت نفض يدها عن مسألة المقابر وتركتها تدار من جانب التُربية ومجموعة البلطجية.

لكن فى المقابل هناك مسئولية تقع على عاتق أصحاب الأحواش فقد اهتموا فى الماضى بمقبرة العائلة، وعملوا على صيانتها، وتجديدها بشكل سنوى، لدرجة أننا كنا نبيت داخل مقبرة العائلة أثناء المناسبات، لكن مع الوقت تخلوا عن عادتهم.

وبشكل عام فعادات زيارة المقابر التى عرفتها مدينة القاهرة طوال تاريخها تراجعت، بسبب أن أغلب الأبناء قرروا ترك مقابر جدودهم وشراء مقابر جديدة على أطراف المدينة. لذلك لم يعد هناك اهتمام بمقابر الأجداد، بجانب هجرة أغلب أعضاء الأسر البرجوازية والأرستقراطية إلى خارج مصر.

أما الموجة الثانية التى ساهمت فى تدهور الجبانات فقد كانت بعد ثورة يناير، إذ اجتاح الزحف العمرانى الأراضى الزراعية، وجرى تكثيف البناء داخل المقابر، وساهم الأمر فى ارتفاع منسوب المياه الأرضية بشكل أكبر. فنحن أمام مشكلة مركبة لا بد للدولة أن تتدخل لحلها، لأن المقابر لو تُركت بهذا الشكل فستنهار بشكل كامل، والموضوع من وجهة نظرى يحتاج لإرادة، لأن عمليات إعادة الإحياء تحتاج لدراسات مفصلة، واللجنة التى جرى تشكيلها مؤخرًا للبحث فى أمر الجبانات، وضعتنا على أول الطريق الصحيح، لأنهم قدموا مقترحاتٍ وبدائل مهمة، ومنها: حلول لشبكة الطرق خارج حدود المنطقة تكفى ل10 سنوات قادمة. أرى أننا أمام فرصة حقيقية يمكن خلالها تحويل جبانات القاهرة لمكان سياحى يدر دخلًا، لتنافس جبانة «بير لاشيز» فى باريس، لكن المهم فى الموضوع أن يتم تبنى فلسفة الحفاظ لا الهدم، وهو بالمناسبة أمر لا يتعارض مع فكرة تطوير المدينة.

لننتقل لجزء آخر.. قضيتِ سنواتٍ من حياتك فى دراسة منطقة «وسط البلد».. كمخططة كيف شاهدتِ التحولات التى عاشتها المنطقة.. وما سبب تركيزك أصلًا على دراستها؟

كنت دائمًا منبهرة بوسط البلد، بسبب ارتباطى بالمنطقة منذ ولادتى فى عابدين، والتحاقى بمدارس وسط البلد، وصولًا إلى عملى فى مكتب سيد كريم فى شارع رمسيس، وحين عدت لباريس تمت دعوتى كباحثة للعمل مع مركز دراسات العالم العربى التابع لجامعة «تور»، بجانب استمرارى فى التدريس الأكاديمى بنفس الجامعة.

اخترت الالتحاق بوحدة بحثية مختصة بدراسة تطور المركزية فى مدن العالم العربى، وانتقالها من المدن التاريخية، إلى مناطق جديدة مُستحدثة. فخلال فترة سكنى فى المهندسين تابعت التغيرات التى حدثت داخلها طوال 10 سنوات، مثل: عمليات هدم الفيلات واستبدالها بعماراتٍ ضخمة، واستغلال المساحات الموجودة بين العمارات وتحويلها لأنشطةٍ تجارية ومحلات، أدركت أن هناك تحولات مركزية تعيشها القاهرة ككل.

 وقتها أصبحت المهندسين قطبًا مهمًا داخل القاهرة، وما حدث فيها أعتبره حراكًا سكنيًا نتيجة انتقال الطبقات العليا إليها، وقد واكب ذلك حراك وظيفى لانتقال جزء من الأنشطة الخدمية العليا لغرب النيل وصولًا إلى المهندسين. وبسبب هذا اشتريت منزلًا لى فى وسط البلد، لأن المهندسين أصبحت منطقة طاردة نتيجة التكثيف الرأسى، وعمليات التجديد. عدت إلى القاهرة مرة أخرى فى إطار بحث ممول من قبل المجموعة الأوروبية وقد أعددت دراسة مركزة على وسط البلد فى القاهرة، والعزيزية فى حلب؛ أى ما يمكن أن نطلق عليها مدن القرن ال19 وبداية القرن ال20 برفقة فريق عمل دولى، وضعنا منهجًا علميًا لإدارة عملية الحفاظ على تراث تلك المنطقة، وحددنا قيمتها التاريخية، ونسيجها العمرانى المتنوع، والأنشطة الموجودة داخلها، بجانب فحص ودراسة المبانى الموجودة فيها، استمر الأمر من عام 2000 وحتى عام 2006، إلى أن بدأت وزارة الثقافة الاهتمام بالمنطقة لأول مرة، واعترفت بقيمة قاهرة القرنين ال19 وال20، وساهمت التوعية الكبيرة فى إدراك المجتمع لقيمة المنطقة.

سأحكى لك موقفًا حدث معى منذ أيامٍ قليلة. لاحظت وجود سيارة محملة بالملابس تقف على ناصية شارع «سراى الأزبكية» بمنطقة وسط البلد، حيث أقيم. تحدثت مع «السايس» الموجود فى الشارع الذى أسكن فيه ويدعى عبده. سألته: «هما الباعة الجائلين هيفرشوا هنا كمان؟!» فقال لي: «لأ يا دكتورة، ده هما اشتروا الدور «الحداشر» كله وهيحولوه لمعرض بِدل.. تخيلى يا دكتورة دمروا الدور بالكامل، الناس دول بيدمروا التراث!» وهنا ضحكت وقلت له: «يا حلاوتك يا عبده لما تتكلم عن التراث». هذه الواقعة تعكس إحساس الناس حاليًا بقيمة التراث، خصوصًا هؤلاء الذين انتقلوا للعمل داخل وسط المدينة، فقد شعروا أنه ينبغى الحفاظ عليه لا تدميره أو تشويهه.

أعتقد أن قضيتكِ القادمة ستكون الدفاع عن منطقة وسط البلد..

(تضحك) وتقول: قضيتى فى الوقت الراهن الحفاظ على العمارة التى أسكن فيها من التدهور ليس أكثر من ذلك، والحفاظ على نظافتها، وأن أضمن استمرار عمل «الأسانسير» دون أن يتعرض لأية أعطال بسبب استخدامه من جانب الغرباء. وبالمناسبة أنا واقعية فى التعامل مع الأمور، وأدرك أن التدهور آتٍ لا محالة، فالعمارة بداخلها 42 شقة، والبلوك الخاص بنا بداخله 21 شقة، ثلاث منها فقط تُستعمل كمسكنٍ أما الباقى فعبارة عن أنشطة تجارية!

ما الحل بالنسبة للمنطقة بشكل عام؟

الحل ليس بطلاء واجهات العمارات كما يحدث حاليًا، لأن الاهتمام بالداخل أولى، نحن هنا نتحدث عن منطقة تُؤجر الشقة داخلها للشركات بمبلغ يتجاوز ال25 ألف جنيه شهريًا. كنت أظن فى الماضى أن السكان سيعودون إليها مرة أخرى، كما حدث فى أوروبا، حين قرر السكان العودة للمدن القديمة بعد أن تمت عمليات إعادة إحيائها. لكن العكس هو ما حدث، فقد ترك الناس منطقة المهندسين وبدلًا من العودة لوسط البلد قرروا الانتقال لكمباوندات الشيخ زايد والتجمع الخامس.

تسألنى عن سبب رفض السكان العودة؟ سبب هذا الرفض أن المنطقة دُمرت بشكل كامل، وأصبحت أشبه بمنطقة الموسكى التى هجرها سكانها الأغنياء وحل بدلًا منهم الفقراء، ثم تحولت فى النهاية إلى مخازن؛ وهذا الأمر نفسه يحدث حاليًا مع وسط البلد، إذ يتم إعادة إنتاج تجربة الموسكى مرة أخرى.

ما مقترحاتكِ لتلافى سيناريو حى الموسكى؟

المفترض العمل على خطة لإعادة السكان مرة أخرى لمنطقة وسط البلد. بجانب ضرورة حل مشكلة المواصلات وأماكن الانتظار وغيرها من الأمور. ولا بد من إعادة الترام، لأنه قادر على تقليل حركة السيارات، كما أنه وسيلة لربط الإنسان بتراثه. ويمكن كذلك طرح الشقق الخالية بالمنطقة وتأجيرها للطلبة لربطهم بالمنطقة ومن ثم تشجيعهم على العودة مرة أخرى. أما بالنسبة لطلاء العمارات فهو ليس حلًا. فخلال 20 عامًا جرى طلاء واجهات العمارات حوالى أربع مرات، وهذا شىء لا يحدث داخل أى دولة فى العالم. والسبب هو أن عمليات الطلاء تتم باستخدام مواد رديئة، فمنطقة وسط البلد تعيش مأساة، وبشكل عام أرى أن مدينة القاهرة أصبحت طاردة للسكان، لأن هويتها تتبدل بشكل يومي. كما تفقد تاريخها وجميع ما تحمله من قيم.

قمتِ بعمل دراسة مهمة عن «التحضر العشوائي».. كيف تنظرين لمشكلة العشوائيات داخل القاهرة.. بعض مخططى العمران يؤكدون على أنه لم يعد هناك حل.. هل هى نظرة سوداوية بعض الشىء؟

لا بل نظرة واقعية، وأنا أتفق معهم على أية حال، فالقاهرة وصلت لدرجة كبيرة من التدهور والحلول أصبحت شبه مستحيلة. المشكلة ظهرت منذ الانفتاح الاقتصادي؛ أى عندما تحول الاقتصاد المصرى لاقتصاد ريعى وليس منتجًا، وصارت المضاربة العقارية والاستحواذ على الريع وسيلة لتحسين الظروف المعيشية للبعض وإثراء البعض الآخر، وهو أمر حقق قدراً من السلام الاجتماعى المؤقت. والدولة من جانبها أرادت إزاحة العبء عنها بالنسبة لمجال المأوى والمسكن، وفى المقابل تركت قطاع التشييد والبناء بشكل كامل للمطورين العقاريين والمقاولين للعمل بشكل غير قانوني. وأدى الأمر للاستيلاء على الأراضى الزراعية مع عدم احترام قوانين البناء، وتحول الفلاح إلى مقسم أراضى، ومقاول، يجرف الأراضى الزراعية. إذن فعملية الاستيلاء على الريع كانت ممنهجة ومنظمة لحد كبير، والدولة للأسف تركت هؤلاء يحققون ثراء فاحشًا.

أما بالنسبة لانتشار العشوائية فهى موجودة فى كافة مناحى الحياة، لأن القانون لا يتم احترامه، فالتحولات التى تحدثت عنها أثرت فى النهاية على مناطق الحضر، وأصبحنا محاطين بالفوضى، وتحولت القاهرة فى النهاية إلى مدينة مزعجة، وطاردة لحد كبير. لذلك إذا أرادت الدولة حلًا فيجب عليها إعادة هيكلة المناطق العشوائية وتحسين جودة حياة السكان داخلها بشكل حقيقى، ومنع إعادة إنتاج التجربة مرة أخرى.

الدولة منذ عصر السادات تبنت فكرة التوسع فى إنشاء مدن جديدة لتخفيف الضغط على القاهرة.. كيف تقيمين التجربة هل الحل إنشاء مدن جديدة؟

بالتأكيد جزء من الحل، لكن بشرط أن يتم تنفيذ الأمر بشكل صحيح. الدولة أنشأت مدناً جديدة منذ عصر السادات، لكنها أدارت المسألة بشكل خاطئ، نظرًا لقرب هذه المدن من نطاق القاهرة الكبرى. كان لا بد أولًا تنمية الجنوب بشكل كامل، وتقديم خدمات حقيقية وتسهيلات للسكان، لكن للأسف ما حدث كان العكس، بجانب أن معظم هذه المدن تمت إتاحتها لشريحة معينة من السكان، وكثير منهم لم يسكنوها أصلًا؛ لذلك فالمشكلة لم تُحل. فأكثر من 60% من إجمالى عدد الوحدات العقارية داخل المدن الجديدة بدون سكان، وأقرب مثال على ذلك: مدينة الشروق. وطبقًا لدراسة حديثة فأكثر من 80% من سكان منطقة التجمع هم فى واقع الأمر سكان الطبقة العليا «جدًا» فهذه التجارب فشلت، والحل هو إعادة توزيع السكان على مدن الصحراء الخالية. 

أخيرًا.. ما هو مشروعكِ القادم؟

أريد أن أختم مسيرتى من خلال العمل على كتاب «قاهرة جليلة القاضى»، وسأقوم من خلاله برصد التحولات التى عشتها داخل مدينة القاهرة، وكذلك الأحياء التى انتقلت إليها وتقديم صورة كاملة عنها، وعن حياتى داخلها.. أعتبر أن حياتى بشكل عام كانت عبارة عن صدفٍ سعيدة.

الكلمات الدالة

 

 
 
 
 
 
 
 
 
 
 

مشاركة